الحمد لله المستحق لغاية المحامد نحمده على عظيم احسانه واكرامه لنا بشامل النعم التي تعمنا والتي أعظمها هي شرف الرسالة والتكليف والصلاة والسلام على أشرف الخلق عبدالله ورسوله المصطفى الأمين محمد بن عبدالله الهادي البشير النذير وعلى آل بيته الطيبين وعلى الصحب الميامين ومن اهتدى بهديهم الى يوم الدين
هذِهِ المدونة، نهجتُ فيْهَا سبيْلَ الإيْجَاز والإختصَار، ,غايَتي مِن ذلِك توصيل المعلومة للمسلم باقصر الطرق؛ وألحقتُ بذلك الادلة والشواهد من الكتاب والسنة المطهرة، وأثر الصحابة رضوان الله عليهم، وذكرتُ ائمة وفقهاء المذاهب الاربعة في منهج الاستدلال لديهم جمعا بين النصوص او الترجيح بينها وركزت على مواضع الخلاف بين المذاهب الاربعة وحرصت على منهجيه فيها مخالفا الاجماع ....
سائلاً اللهَ عزَّوجل الإعَانَة ، واللطف في الأمر كلِّهِ ، وأنْ يَجعلَ مَا اكتبُهُ خالصَاً لوجههِ الكريْم ....وان يختم لي بالصالحات وحسن المآب معافاً في ديني وسالما في معتقدي

إسناد الضمير إلى أقرب مذكور أولى من دلالة السياق


بقلم : د.زياد حبوب أبو رجائي
زياد أبو رجائي

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (ص : 31-32)
إذ فى قوله : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد } منصوب بفعل تقديره : اذكر ، و عليه متعلق بعُرِض و العشى يطلق على الزمان الكائن من زوال الشمس إلى آخر النهار . وقيل إلى مطلع الفجر .
ثلاث صفات للخيل في هذه الآيات :

1- الصافنات : وقد اختلف أهل اللغة في معناه ، وهي جمع صافن ، والصافن من الخيل : صفن الفرس يصفن صفونًا: إذا قام على ثلاثة قوائم، وقلب أحد حوافره. أويقف على طرف سنبكه ، وقد يفعل ذلك برجله ، وهي علامة الفراهة . إلا أن أبا عبيدة قال : الصافن : الذي يجمع يديه ويسويهما ، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم ، ووقال الزجاج : هو الذي يقف على إحدى اليدين ، ويرفع الأخرى ، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها حتى كأنه يقوم على ثلاث ، وهي : الرجلان ، وإحدى اليدين ، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه.
وقيل: الصافن في اللغة القائم. وجاء في الحديث: "من سره أن يقوم له الرجال صفونًا فليتبوأ مقعده من النار" (1) .
قال الزمخشري في «الكشاف» : فإن قلت . ما معنى وصفها بالصفون؟ قلت : الصفون لا يكاد يوجد فى الهجن ، وإنما هو فى - الخيل - العراب الخلص وقيل : وصفها بالصفون والجودة ، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين : واقفة وجارية ، يعنى إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة فى مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعا خفافا فى جريها . .

2- الجياد : جمع جواد ، وهو الفرس السريع العدو ، الجيد الركض .وقيل : الطوال الأعناق من « الجيد »: وهو العنق ، إذ هي من صفات فراهتها
كما أن الجواد من الناس هو السريع البذل ، فالمقصود وصفها بالفضيلة والكمال حالتي وقوفها وحركتها . أما حال وقوفها فوصفها بالصفون ، وأما حال حركتها فوصفها بالجودة ، يعني أنها إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال ، فإذا جرت كانت سراعاً في جريها.

3- الخير : يقصد بها الخيل التي نعتها بالصافنة الجيدة ، والعرب تسمى الخيل خيرا ، لتعلق الخير بها لما فيها من المنافع من حيث الأجر والمغنم ، اضافة انهم -العرب- تعاقب بين الراء واللام
، روى البخارى عن أنس - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة .»(2)
رؤية في هذه القصة :
الحق ان الخلاف الذي يدور في سياق هذه الآيات يتمركز حول نقطتين :
أولاً : حرف الجر « عن » في قوله تعالى « عَنْ ذِكْرِ رَبِّي »
ثانياً : إسناد الضمير في قوله « حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ »
إن التفسير الذى تطمئن إليه نفوسنا لهذه الآيات يجب أن يتكأ على مقام النبوة وخلوه من كل ما يتنافى مع سمو منزلة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - . وعلى ما يذكره المفسرون فيها ، من الروايات التي لا يخفى سقوطها ، وأنها لا تليق بمنصب النبوة .
{ عن } هنا تعليلية أي : بسبب ، أو أن يضمن فعل أحببت معنى فعل يتعدى بعن مثال : معنى { آثرت } أي: آثرت حب الخير، الذي هو المال عموما، حتى نتجنب الوقوع في تفسير التفضيل بين حب الخيل وذكر الله أو فوات صلاة العصر كما قالت الاسرائليات ، لأن المقام هنا مقام نبي لا يمكن ان تقع منه هذه المعصية ، إذ لا دلالة فيه على فوت الصلاة مع أنه إذا كان فوتها بالنسيان لم يكن ذنبا ، كما أن ذلك يقتضي منا قبول الرواية الاسرائيلية كما جاءت دون تمحيصها او الوقوف عليها .
والمراد ب { ذِكْرِ رَبِّي } كتابه طاعته وعبادته وليس صلاة العصر
والضمير فى قوله { حتى تَوَارَتْ } يعود إلى الخيل الصافنات الجياد ، ولا يعود إلى الشمس ، ومن اختار الشمس اعتمد على دلالة السياق في الآية حيث اسندوا تلك الدلالة لى العشي وهو وقت يمتد إلى الغروب ، إلا ان ذلك ليس بصريح كما هو الحال في لفظ الصافنات والجياد والخير التي تعني بصراحة الخيل ، فالقاعدة ان نسند الضمير إلى اقرب مذكور أجلى وأوضح هنا من اسناده الى دلالة السياق. ورجوع ضمير توارت إلى الشمس أبعد الإحتمالات لأنهم يرون أن ذلك الضمير يحتمل أن يعود إلى الشمس إذ قد جرى ما له تعلق بها وهو العشي! واسناده إلى الصافنات وهذا أولى لأنها مذكورة صريحا دون الشمس والله اعلم
والمراد بالحجاب : ظلام الليل الذى يحجب الرؤية .
والمعنى :
قال سليمان وهو يستعرض الخيل أو بعد استعراضه لها : إنى أحببت استعراض الصافنات الجياد ، وأحببت تدريبها وإعدادها للجهاد ، من أجل ذكر ربى وطاعته وإعلاء كلمته ، ونصرة دينه ، وقد بقيت حريصا على استعراضها وإعدادها للقتال فى سبيل الله ، حتى توارت واختفت عن نظرى بسبب حلول الظلام الذى يحجب الرؤية { رُدُّوهَا عَلَيَّ } أى قال سليمان لجنده ردوا الصافنات الجياد علىَّ مرة أخرى ، لأزداد معرفة بها ، وفهما لأحوالها . .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } فصيحة تدل على كلام محذوف يفهم من السياق . و طفق فعل من أفعال الشروع يرفع الاسم وينصب الخبر ، واسمه ضمير يعود على سليمان ، و مسحا مفعول مطلق لفعل محذوف . والسوق والأعناق : جمع ساق وعنق .
أى : قال سليمان لجنده : ردوا الصافنات الجياد علىّ ، فردوها عليه ، فأخذ فى مسح سيقانها وأعناقها إعجابا بها ، وسرورا بما هى عليه من قوة هو فى حاجة إليها للجهاد فى سبيل الله - تعالى - .
هذا هو
ولكن كثيرا من المفسرين (6) نهجوا نهجا آخر ، معتمدين على قصة ملخصها : أن سليمان - عليه السلام - جلس يوما يستعرض خيلا له ، حتى غابت الشمس دون أن يصلى العصر ، فحزن لذلك وأمر بإحضار الخيل التى شغله استعراضها عن الصلاة ، فأخذ فى ضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، قربة لله - تعالى - .
فهم يرون أن الضمير فى قوله - تعالى - { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } يعود إلى الشمس . أى : حتى استترت الشمس بما يحجبها عن الأبصار .
وأن المراد بقوله - تعالى - { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } الشروع فى ضرب سوق الخيل وأعناقها بالسيقف لأنها شغلته عن صلاة العصر . هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين .يوضح بطلانه ، قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] واعتراف الشيطان بذلك في قوله : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 40 ] .
قال الحافظ ابن كثير: 4 / 37 بعد أن أورد عدة روايات ومنها عن ابن عباس رضي الله عنهما: "ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما - إن صح عنه - من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة السلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفا وتكريما لنبيه عليه السلام. وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب".
ولم يرتض الرازى هذا التفسير الذى عليه أكثر المفسرين ، وإنما ارتضى أن الضمير فى { توارت } يعود إلى الصافنات الجياد وأن المقصود بقوله - تعالى - : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } الإِعجاب بها والمسح عليها بيده حبّاً لها .وذلك أن الصافنات مذكورة بالصريح والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر
وذكر أنى لا أحبها لأجل الدنيا وإنما أحبها لأمر الله ، وهذا الحب ناشئاً عن حب الله . وهو المراد من قوله : { عَن ذِكْرِ رَبِّي }
ثم أمرهم أن يردوا تلك الخيل إليه ، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها .
قال ابن حزم : تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة ، خرافة موضوعة . . قد جمعت أفانين من القول؛ لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها . وإتلاف مال منتفع به بلا معنى . ونسبة تضييع الصلاة إلى نبى مرسل . ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها . .
وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير ، من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها .
ثم أمر بردها . فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده ، برابها ، وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذى لا يحتمل غيره ، وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل ، وتعطيل الصلاة . .
والحق أن ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن سليمان - عليه السلام - شغل باستعراض الخيل عن صلاة العصر ، وأنه أمر بضرب سوقها وأعناقها . . وحمله على قطعها ضعيف إذ لا دلالة للفظ عليه .
وأن التفسير المقبول للآية أن الضمير فى قوله : { حتى تَوَارَتْ } يعود إلى الصافنات لأنه أقرب مذكور .هذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء، لا القول المنسوب للجمهور، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء.
الهدي المستفاد من هذه الآيات :
قال أبو بكر الجزائري في « أيسر التفاسير» :
1- جواز استعراض الحاكم القائد قواته تفقداً لها لما قد يحدثه فيها .
2- اطلاق لفظ الخير على الخيل فيه تقرير أن الخيل إذا ربطت في سبيل الله كان طعامها وشرابها حسنات لمن ربطها في سبيل الله كما في الحديث الصحيح « الخيل لثلاث . . . . . » . ربط الطائرات النفاثة في الحظائر اليوم والمدرعات وإعدادها للقتال في سبيل الله حل محل ربط الجياد من الخيل في سبيل الله.

1) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في قيام الرجل للرجل: 8 / 92 - 93، والترمذي في الأدب، باب: ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل: 8 / 30 وقال: "هذا حديث حسن" والإمام أحمد: 4 / 100 والطبراني في الكبير: 19 / 351 - 352 وابن أبي شيبة في المصنف: 8 / 586، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة: 3 / 1332.
2) أخرج البخاري: 6 / 54، ومسلم: 3 / 1494 عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البركة في نواصي الخيل" وأخرج مسلم: 3 / 1943 عن جرير رضي الله عنه - مرفوعا -: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلي يوم القيامة: الأجر والغنيمة".