أدوات النفي تتشابه في نفي حدوث الفعل إلا ان لكل واحدة منها خصوصية تتمايز بها عن غيرها، ويتجلى معناها البلاغي في تأثيرها على حدوث الفعل من خلال السياق الجاري مجرى النفي.
وفعل النفي هو في الحقيقة فعل انكار، والانكار يمتد ما بين الانكار المؤقت والانكار المؤبد الذي لا يُظهر حدود انتهاء صرف النهي الى الايجاب وعدم امكانيةٍ تقترب الى الاستحالة؛ بخلاف الانكار المؤقت الذي تنتهي حدوده عند نضوج الظرف الذي كان يؤدي كصارف وقرينة.
لهذا كان من الضروري ولادة أدوات توظف لخدمة هذا المفهوم سواء في زمن الفعل الماضي او المضارع، أدوات يستخدمها المتكلم لتوصيل مراده ومقاصده في ذلك النص الأدبي.
وسألقي -في مقالتي- الضوء على اربع ادوات هي : لا - لم - لن - لما
وكما هو ظاهر للعيان فان مدار تركيبها على اربع حروف هل: أ - ل - ن - م، كما انه يظهر-ايضا- ان الحرف المشترك فيها هو اللام بينما الحروف الثلاثة الاخرى هي الداخلة على حرف اللام.
وكون كل حرف في لغة العرب يختص في معنى في ذاته-عند الاستقراء- فان دخول الحروف على بعضها يدخل في حيز زيادة المعنى ويتقرر بذلك ان كل زيادة في المبنى بالضرورة هي زيادة في المعنى(1) القاعدة المشهورة، وعليه ندرك مدى تقلب دلالة اللام عند اقتران الحروف الاخرى بها.
ومن الملاحظ -في ذلك- أن: تأثير دخول الحروف يظهر في تركيب هجين يؤدي وظيفة جديدة لم يكن يؤديها لوحده كما سيأتي لاحقاً، فالحروف إذا رُكِّبت تغيَّر حكمها بعد التركيب، عمَّا كانت عليه قبل التركيب؛ وهذا التأثير من مكنوناته تلك الجمالية البلاغية التي يبحث عنها النص باستهدافه للفكرة المقصودة دون عناء تحشيد جمل وألفاظ يمكن اختصارها بالوظيفة الناشئة الجديدة عن تركيب الحروف فيما لو استعملناها بالمفهوم البلاغي الكامن بها.
واللام -مدار البحث-: من خصائصها : الالصاق ومن مفهومه يشتق الجمع والضم، وأي زيادة على شكلها تدل على زيادة في معناها - كما في التفصيل الآتي: وهذا من البديهيات وإلا فلا لزوم للزيادة اذا لم تغير المعنى، او ان الزيادة لا معنى لها، ويجدر الاشارة هنا ان بعض النحاة -رحمهم الله- نفي ان تكون هذه الادوات مركبة بل هي بسيطة وتحمل الدلالة كما قررته لغة العرب ولهم مسوغاتهم المعتبرة في ذلك. إلا ان ذهني يميل الى التركيب في تذوق النص الأدبي والاستمتاع البلاغي.
أدوات النفي واتساع معنى النفي:
- لا : امتداد زمن نفي حدوث الفعل وطول النفي ودوامه.
- قال بعض النحويين : يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه تضييق النفس، فناسب امتداد لفظها بامتداد معناها، ولاقتران الالف باللام فانه يحول بين تأدية اللام لوظيفتها في الالصاق والضم والجمع كصورة من صور خصيصة الالصاق التي تمتاز بها اللام كما قلنا.
تطبيق بلاغي:- قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}(الانعا:103)
- تشير الأداة لعدم حصول الادراك ابدا؛ قال ابن القيم -رحمه الله- في (بدائع الفوائد): فإنه لا يدرك أبدا وإن رآه المؤمنون فأبصارهم لا تدركه، تعالى عن أن يحيط به مخلوق
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا}(2)
- تشير أداة "لا" للنفي المؤبد؛ أي: لعدم انتهاء حرصهما ابدا(3)
- لن : نفي مؤقت لأقرب أزمنة الاستقبال إلى زمن المتكلم.والقرينة التي تصرف دلالة النفي من الدوام الى ترقب حصول الفعل هو حرف النون باقترانه مع اللام، حيث أرجع الخليل-رحمه الله- التركيب إلى أصله بانه مركب من (لا) النافية و(أن) الناصبة للفعل ، وهذا الاقتران قد تولد منه تركيبا هجينا يعكس المفهوم الكامن في كل أداة على حدة، فـ"لا" كما أسلفنا تحمل دلالة التأبيد والدوام لنفي الفعل، بخلاف أداة "أن" التي تختص بدلالة تحقيق وتأكيد الفعل، لذلك فإن المركب الهجين "لن" يحمل دلالة جديدة ما بين التحقق والاستحالة، ويؤدي وظيفة اخرى تساعد النص لاستهداف القصد باختصار، وهذه الدلالة:
- توقف امتداد ودوام النفي حتى زمن المتكلم
- تحيل حدوث الفعل من حالة الاستحالة الى حالة امكانية الحدوث
- ترقب في حدوث الفعل بزوال الصارف والقرينة من خلال السياق
تطبيق بلاغي :- قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}
- تشير الأداة "لن" نفي حدوث الرؤية ، مع وجود امكانية للرؤية ، فقرينة حدوث الفعل هي استعمال "لن" كاداة نفي مما يجعل هذا النص القرآني الكريم يكذب من نفى الرؤية مطلقا، بمعنى ان القرآن ادخل على نص الآية أداة "لن" ليستهدف فكرة الرؤية ويصرف الذهن الى امكانية حدوثها بخلاف لو استعمل اداة "لا" والتي تعني -كما أسلفنا- دوام نفي حدوث الفعل، ويؤكد هذا الفهم لنص الآية الكريمة ما جاء في الحديث الصحيح عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {( ما أَشْخَصَ أبصاركم عني ؟ قالوا: نَظرْنا إلى القمرِ ، قال : فكيف بكم إذا رأيتم الله جَهْرَةً ؟ ! ).أخرجه الآجري في "الشريعة" (ص 263- 264)}، وفي رواية اخرى:{ إنكم سترون ربكم عيانا}أي: بالعين (متفق عليه:ب(554 )، م(633 ).
- قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم : « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي »
- تشير أداة "لن" للنفي المؤقت؛ أي: ان النفي ينتهي بزوال القرينة وهي التمسك بكتاب الله وسنة النبي(4)
- امكانية حدوث الفعل عند انتفاء الصارف والقرينة، والمعنى المستهدف المقصود في هذا النص-حديث النبي- انه فيمن يتمسك بالكتاب والسنة فان ذلك صارف للضلالة التي تزول بالتمسك بالكتاب والسنة.
- لم: امتداد نفي حدوث الفعل في الزمن الماضي
- تتخصص "لم" بنفي حدوث للفعل المضارع مع قلبه الى الزمن الماضي؛ لذلك توغل هذه الأداة بامتداد نفي حدوث الفعل
- تدخل على مضارع اللفظ، فتصرف معناه إلى الماضي
- ليس شرطا ان يمتد النفي فيها الى زمن المتكلم وانما يفيها اشارة الى التوغل في الزمن الماضي مه تمدده لزمن المتكلم او انقطاعه قبل ذلك بخلاف الأداة "لما" فهي تفيد التصال حتى زمن المتكلم
تطبيق بلاغي:- {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (آل عمران:151)}تأمل أداة "لم" وتأثيرها على الفعل ينزل، فهي:
- قلبت زمن الفعل الى الماضي
- امتدت بنفيه الى ماض بعيد، بقرينة ان المتكلم هو الله -سبحانه وتعالى، ليس كمثله شيء- لا يعقل ولا يستساغ عقلا ان يطلب من المخلوقات ان يشركوا معه احدا وتم تقوية المعنى بتاكيد جزاء من يفعل ذلك النار وذمها كمثوى للظالمين.
- {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (النساء:113)}
- ينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه يعلم من قبل عن الكتاب والحكمة، وبين في مواضع أخر أنه علمه ذلك عن طريق هذا القرآن العظيم الذي أنزله عليه كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } (الشورى:52)وهذا تكذيب لمن جنح في قوله واعتقاده -عن عقيدة أهل السنة والجماعة- باثبات خصائص للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في علمه الغيب ماضويا او مستقبليا وان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدو عن كونه بشر مثلنا يوحى اليه من ربه.
- لما : نفي أقرب الأزمنة الماضية إلى زمن المتكلم،
- مركَّبٌة من (لم) الجازمة و(ما) الزائدة، وبذلك زادت المعنى عما كانت أداة "لم" تؤديه
- تدلّ على المنفي بها متصل الانتفاء إلى وقت المتكلم
- والنفي ب { لمّا } قد يُفهم منه ترقب حصول المنفي بعد ذلك.
- قال ابن يعيش الفرق بين نفي الاثنين فيقول: ("لما " نفيا لقولهم: قد فعل، وذلك أنَّك تقول "قام " فيصلح ذلك لجميع ما تقدمك من الأزمنة، ونفيه " لم يقم "، فإذا قلت " قد قام " فيكون ذلك إثباتا لقيامه في أقرب الأزمنة الماضية إلى زمن الوجود، ولذلك صلُح أن يكون حالا … ونفيُ ذلك "لمَّا يقم " زدت على النافي وهو "لم" "ما" كما زدت في الواجب حرفا وهو "قد" لأنَّهما للحال ولمَّا ناظرتْ (لما) (قد) أُعطيت ما أعطيته (قد) من جواز حذف الفعل بعدها إذا دلَّ عليه دليل.
تطبيق بلاغي- قوله تعالى:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (ص:8)}
- دلالة اداة " لما " توميء بالتهديد وذلك في ترقبهم العذاب، فهي بمثابة قرينة يفهم منها ترقب حصول المنفي وهو العذاب، والتهديد حاصل من دلالتها على المنفي(العذاب) بها متصل الانتفاء حتى زمن نزول الآية الكريمة
هذا والله أعلم
أسأل الله لي وللمسلمين العلم النافع، والعمل الصالح. فهو ولي الهداية والتوفيق لما يقربنا إليه. إنه ولي ذلك والقادر عليه
وأسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا و أن يلهمنا العمل به إنه سميع مجيب.
زياد أبو رجائي
25-3-2012
(1) زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى
(2) النهمة شدة الحرص على الشئ، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :{منهومان لا يشبعان : طالب علم و طالب دنيا}(صحيح الجامع: 6624)
(3) جاء في الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه : فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن ثم قرأ { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان ثم قرأ { إن الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى } والله أعلم.
(4) وهنا اشارة ان ذلك محتمل الحدوث