إن لغة العرب في قبيلة بلحارث بن كعب ، وطيء ، وأزد شنوءة ، تجيز اتصال الفعل المسند للاسم الظاهر بعلامة التثنية او الجمع ، بخلاف لغات العرب المشهورة مثل لغة قريش أنموذجاً ، التي تنص على وجوب تجريد الفعل من علامة تدل على تثنية أو جمع إذاكان فاعله ظاهرا مثنى أو جمعاَ.
و قبيلة بلحارث هم الذين يقولون : « أكلوني البراغيث» ، بخلاف القبائل العربية التي لا تجيز ذلك فعليه تكون الجملة : « أكلتني البراغيث«
فعندهم جاز أن نقول : قاما الزيدان ، وقاموا الزيدون . كما انهم يجعلون الاثنين في الرفع والنصب والخفض بالألف، يقولون: أتاني الزيدان ، ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، فلا يتركون ألف التثنية في شيء منها([1]) وكذلك يجعلون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفا، كما في التثنية، يقولون: كسرت يداه وركبت علاه، يعني يديه وعليه. وقال شاعرهم([2])
تزود مني بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التراب عقيم
يريد بين أذنيه
وهذه لغة مشهورة لا يجوز لأحد اعتباها خطأ لغوياً بل من الإنصاف ان يكون الوصف بأن لغة وجوب تجريد الفعل من علامة تدل على المثنى أو الجمع إذا كان الفاعل ظاهراً بانها أعلى صوابا لاجتماع أكثر لغات العرب عليها ، وعليه يكون من أجاز اتصال الفعل بعلامة التثنية أو الجمع أقل صواباً.
أمثلة من القرآن والسنة:
1- [لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ] {الأنبياء:3}
الشاهد : وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ، وأسروا فعل ألحق به واو الجمع وكان حقه وأسر ، ومكان« الذين« من الإعراب هو : فاعل
2-[وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] {المائدة:71}
الشاهد : عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ ، وكثير مرفوع على أنه فاعل
3- [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا]{الإسراء:23}
الشاهد : يبلغن ، فقد قرأها كل حمزة الكوفي والكسائي الكوفي وخلف العاشر :
(يَبْلُغَآنِّ) بألف بعد الغين وبتشديد النون وكسرها ، فعليه تكون أحدهما هي الفاعل
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَتَعاقَبُون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يَعْرُجُ الذين بَاتُوا فيكم، فيسألُهم ربهم -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون وأتيناهم وهم يصلُّون«([3]) .
الشاهد : يتعاقبون ..ويجتمعون
ولاحظ بعدها مجئ الفعل يعرجُ وليس يعرجون ، مع أنها معطوفة على الأفعال السابقة« يتعاقبون و يجتمعون« فالواو هنا علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بلحارث .
إلا أن لغة قريش لا توافق في النحو لغة العرب من هذه القبائل ، فالقاعدة التي بنى عليها النحاة :
« منع اتصال الفعل بعلامة الجمع او التثنية مع اسناده إلى اسم ظاهر في سياق دلالة الجملة « .
لذلك اختلف النحاة في موضع كهذا ، فكان إعراب «الذين» و « كثير » عند الذين يجيزون ذلم وحملهم الآية دون تكلف او تعسف في اعرابها على لغة بلحارث وطيء وأزد شنوءة :
1- فاعل للفعل المتصل بواو الجماعة ، ونقل الألوسي : وقال أبو عبيدة والأخفش . وغيرهما : هو فاعل { أَسَرُّواْ } والواو حرف دال على الجمعية كواو قائمون وتاء قامت وهذا على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة لأزدشنوءة([4]) ، الأخفش حمل القول على لغة بلحارث ،وقال: وقد تعسف بعض النحاة في تأويلها وردها للبدل، وهو تكلف مستغنى عنه، فإن تلك اللغة مشهورة ولها وجه من القياس واضح..«([5]) ، وهي لغة حسنة على ما نص أبو حيان لكنه قال : ولا ينبغي حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة ، وهذه اللغة ليست شاذة كما زعمه بعضهم مثل ابن عادل في تفسير اللباب فقد قال:« أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي به« ونقل قول ابن عصفور:« إنَّها لغةٌ ضعيفة «
وعلى مذهب الذين لا يجيزون ذلك:
2- بدل : من الواو في «أسروا « أي على الضمير المستتر عائد على الناس المتقدم ذكرهم ، و «عموا وصمو« .
أصحاب هذا المذهب :سيبويه([6]) ، الزجاج([7]) في احد قوليه ([8])، العكبري([9]) ، قال المبرد: هذا كقولك إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله، على البدل مما في انطلقوا ثم بين سرهم الذي تناجوا به([10]) ، وابن عطية في تفسيره ، وناصره ابن الجوزي في «زاد المسير«
3- خبر مبتدأ محذوف : أي : إضمار مبتدإ ، فالتقدير: العمي والصم كثير منهم.وإن شئت كان التقدير العمي والصم منهم كثير. والقاعدة عندهم : الفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فيه دليل على أنه خبر عن اثنين ، أو جماعة. قالوا: والدليل على أنه خبر عن اثنين في الفعل المستقبل الألف والنون قوله(أحَدُهُما أوْ كِلاهُما) كلام مستأنف، كما قيل (وأسَرُّوا النَّجْوَى) ثم ابتدأ فقال(الَّذِينَ ظَلَمُوا).
4- فاعل :في محل رفع على حذف القول، التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول، مثل « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم « [ الرعد: 23 - 24 ].
واختار هذا القول النحاس، قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده « هل هذا إلا بشر مثلكم « ، وأجاز الاخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث
5- مبتدأ مؤخر جوازاً ، وخبره الجملة الفعلية «وأسروا النجوى« مقدمة جوازاً للأهمية المعهودة في التقديم والتأخير في لغة العرب وناصر هذا المذهب الكسائي ، والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلاً على فعلهم بكونه ظلماً([11])
6- نعت في محل خفض ، يعود على « للناس ِ« في قوله تعالى :اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ] {الأنبياء:1} وصاحب هذا المذهب أبو البقاء كما نقله الألوسي عنه
7- بدل في محل خفض من الناس ويعزى هذا للفراء.
خلاصة القول
لا بد من إذعان بعض النحاة لما جاء في القرآن من لغات القبائل فقال جل وعلا:
[إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] {يوسف:2}
[قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] {الزُّمر:28}
[كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {فصِّلت:3}
وهذا بلا شك اثبات أن القرآن لكل العرب لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولاً واحدًا.، فإن ظاهر قوله تعالى ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) أنه نزل بجميع ألسنة العرب ، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة أو هما دون اليمن أو قريشا دون غيرهم فعليه البيان .
ولا زلنا نذكر رواية كتابة مصحف الإمام عثمان : فقد أمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام([12])فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاث إذا اختلفتم في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا.([13]) ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح : « وقال القاضي أبو بكر بن الباقلاني : معنى قول عثمان « نزل القرآن بلسان قريش « أي معظمه ، وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش «([14]) ، ولهذا بوب الامام البخاري : «باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب « في كتاب فضائل القرآن.
والشاهد هنا أن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوا هذه اللغة بدليل عدم اختلافهم في ذلك ولم يتم تغييرها بلغة قريش ، بخلاف ما حصل حينها للفظة تابوت فقد روى الترمذي : « قال الزهري فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه فقال القرشيون التابوت وقال زيد التابوه فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت فإنه نزل بلسان قريش «([15])وهذا يؤكد فصاحة هذه اللغة فضلاً على أنها معروفة لديهم ، ناهيك على:قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه :« إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف « وذهب أبو عبيد وآخرون إلى أن المراد ، اختلاف اللغات ، وهو اختيار ابن عطية ، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة ، وأجيب بأن المراد أفصحها، وقال أبو عبيد : ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات ، بل اللغات السبع مفرقة فيه ([16]) .
وقد حمل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور على الوجوه التي يقع بها التغاير في سبعة أشياء :
الأول ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته ، مثل ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) بنصب الراء ورفعها .
الثاني : ما يتغير بتغير الفعل مثل « بعد بين أسفارنا « و « باعد بين أسفارنا « بصيغة الطلب والفعل الماضي .
الثالث : ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل « ثم ننشرها بالراء والزاي « .
الرابع : ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل « طلح منضود « في قراءة علي وطلع منضود .
الخامس : ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل « وجاءت سكرة الموت بالحق « في قراءة أبي بكر الصديق وطلحة بن مصرف وزين العابدين « وجاءت سكرة الحق بالموت « .
السادس : ما يتغير بزيادة أو نقصان كما تقدم في التفسير عن ابن مسعود وأبي الدرداء « والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى « هذا في النقصان ، وأما في الزيادة فكما تقدم في تفسير « تبت يدا أبي لهب « في حديث ابن عباس « وأنذر عشيرتك الأقربين ، ورهطك منهم المخلصين « .
السابع : ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل « العهن المنفوش « في قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير كالصوف المنفوش ، وهذا وجه حسن لكن استبعده قاسم بن ثابت في « الدلائل « لكون الرخصة في القراءات إنما وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم ، وإنما كانوا يعرفون الحروف بمخارجها . قال : وأما ما وجد من الحروف المتباينة المخرج المتفقة الصورة مثل « ننشرها وننشرها « فإن السبب في ذلك تقارب معانيها ، واتفق تشابه صورتها في الخط
وأخذ أبو الفضل الرازي كلام ابن قتيبة ونقجه :
الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف :
الأول : اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع أو تذكير وتأنيث .
الثاني : اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر ، الثالث: وجوه الإعراب ، الرابع : النقص والزيادة ، الخامس: التقديم والتأخير ، السادس: الإبدال ، السابع : اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار ونحو ذلك .([17])
لذلك فإن القول الصواب هو أن نجعل الواو علامة للجمع ، أوجعل الواو حرفاً جيء به للدلالة على علامة للجمع ، كما أثبت القرآن لغة بلحارث بن كعب والتي هي لغة فصيحة ولها أقيستها الخاصة بها اعتماداً على ورد من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور مثالاً وما هو مقرر في لسان العرب .
[1] ) تفسير الطبري: 16 / 180 - 181، والبحر المحيط: 6 / 255، زاد المسير لابن الجوزي: 5 / 298، التبيان في إعراب القرآن للعكبري: 2 / 895،
[3] ) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر: 2 / 33، وفي بدء الخلق، ومسلم في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما برقم (632): 1 / 439، والبغوي في شرح السنة: 2 / 226
[14] ) قوله تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) لا يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بلسان قريش فقط لكونهم قومه ، بل أرسل بلسان جميع العرب لأنه أرسل إليهم كلهم ، بدليل أنه خاطب الأعرابي الذي سأله بما يفهمه بعد أن نزل الوحي عليه بجواب مسألته فدل على أن الوحي كان ينزل عليه بما يفهمه السائل من العرب قرشيا كان أو غير قرشي« فتح الباري«
إن لغة العرب في قبيلة بلحارث بن كعب ، وطيء ، وأزد شنوءة ، تجيز اتصال الفعل المسند للاسم الظاهر بعلامة التثنية او الجمع ، بخلاف لغات العرب المشهورة مثل لغة قريش أنموذجاً ، التي تنص على وجوب تجريد الفعل من علامة تدل على تثنية أو جمع إذاكان فاعله ظاهرا مثنى أو جمعاَ.
وهذه لغة مشهورة لا يجوز لأحد اعتباها خطأ لغوياً بل من الإنصاف ان يكون الوصف بأن لغة وجوب تجريد الفعل من علامة تدل على المثنى أو الجمع إذا كان الفاعل ظاهراً بانها أعلى صوابا لاجتماع أكثر لغات العرب عليها ، وعليه يكون من أجاز اتصال الفعل بعلامة التثنية أو الجمع أقل صواباً.
[1] ) تفسير الطبري: 16 / 180 - 181، والبحر المحيط: 6 / 255، زاد المسير لابن الجوزي: 5 / 298، التبيان في إعراب القرآن للعكبري: 2 / 895،
[3] ) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر: 2 / 33، وفي بدء الخلق، ومسلم في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما برقم (632): 1 / 439، والبغوي في شرح السنة: 2 / 226
[14] ) قوله تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) لا يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بلسان قريش فقط لكونهم قومه ، بل أرسل بلسان جميع العرب لأنه أرسل إليهم كلهم ، بدليل أنه خاطب الأعرابي الذي سأله بما يفهمه بعد أن نزل الوحي عليه بجواب مسألته فدل على أن الوحي كان ينزل عليه بما يفهمه السائل من العرب قرشيا كان أو غير قرشي« فتح الباري«